الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
في هذه السنة خرج ملك الروم من القسطنطينية في ثلاث مائة ألف مقاتل إلى الشام فلم يزل بعساكره حتى بلغوا قريب حلب وصاحبها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس فنزلوا على يوم منها فلحقهم عطش شديد وكان الزمان صيفًا وكان أصحابه مختلفين عليه فمنهم من وممن كان معه ابن الدوقس ومن أكابرهم وكان يريد هلاك الملك ليملك بعده فقال الملك: الرأي أن نقيم حتى تجيء الأمطار وتكثر المياه. فقبح ابن الدوقس هذا الرأي وأشار بالإسراع قصدًا لشر يتطرق إليه ولتدبير كان قد دبره عليه. فسار ففارقه ابن الدوقس وابن لؤلؤ في عشرة آلاف فارس وسلكوا طريقًا آخر فخلا بالملك بعض أصحابه وأعلمه أن ابن الدوقس وابن لؤلؤ قد حالفا أربعين رجلًا هو أحدهم على الفتك به واستشعر من ذلك وخاف ورحل من يومه راجعًا. ولحقه ابن الدوقس وسأله عن السبب الذي أوجب عوده فقال له: قد اجتمعت علينا العرب وقربوا منا وقبض في الحال على ابن الدوقس وابن لؤلؤ وجماعة معهما فاضطرب الناس واختلفوا ورحل الملك وتبعهم العرب وأهل السواد حتى الأرمن يقتلون وينهبون وأخذوا من الملك أربعمائة بغل محملة مالًا وثيابًا وهلك كثير من الروم عطشًا ونجا الملك وحده ولم يسلم معه من أمواله وخزائنه شيء البتة وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويًا عزيزًا. وقيل في عوده غير ذلك وهو أن جمعًا من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره وظن الروم أنها كبسة فلم يدروا ما يفعلون حتى إن ملكهم لبس خفًا أسود وعادة ملوكهم لبس الخف الأحمر فتركه ولبس الأسود ليعمى خبره على من يريده وانهزموا وغنم المسلمون جميع كان
لما استولى الملك جلال الدولة على واسط وجعل ولده فيها سير وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح والبصرة ليملكها فملك البطائح وسار إلى البصرة في الماء وأكثر من السفن والرجال. وكان بالبصرة أبو منصور بختيار بن علي نائبًا لأبي كاليجار فجهز جيشًا في أربعمائة سفينة وجعل عليهم أبا عبد الله الشرابي الذي كان صاحب البطيحة وسيره فالتقى هو والوزير أبو علي فعند اللقاء والقتال هبت ريح شمال كانت على البصريين ومعونة للوزير فانهزم البصريون وعادوا إلى البصرة فعزم بختيار على الهرب إلى عبادان فمنعه من سلم عنده من عسكره فأقام متجلدًا. وأشار جماعة على الوزير أبي علي أن يعجل الانحدار ويغتنم الفرصة قبل أن يعود بختيار يجمع. فلما قاربهم وهو في ألف وثلاثمائة عدد من السفن سير بختيار ما عنده من السفن وهي نحو ثلاثين قطعة وفيها المقاتلة وكان قد سير عسكرًا آخر في البر وكان له في فم نهر أبي الخصيب نحو خمسمائة قطعة فيها ماله ولجميع عسكره من المال والأثاث والأهل فلما تقدمت سفنه صاح من فيها وأجابه من في السفن التي فيها أهلوهم وأموالهم وورد عليهم العسكر الذي في البر فقال الوزير لمن أشار عليه بمعالجة بختيار: ألستم زعمتم أنه في خف من العسكر وأن معالجته أولى ورأى الدنيا مملوءة عساكر فهونوا عليه الأمر فغضب وأمر بإعادة السفن إلى الشاطيء إلى الغد ويعود إلى القتال. فلما أعاد سفنه ظن أصحابه أنه قد انهزم فصاحوا: الهزيمة! فكانت هي. وقيل: بل لما أعاد سفنه لحقهم من في سفن بختيار وصاحوا: الهزيمة! الهزيمة! وأجابهم من في البر من عسكر بختيار ومن في سفنهم التي فيها أموالهم فانهزم أبو علي حقًا وتبعه أصحاب بختيار وأهل السواد ونزل بختيار في الماء واستصرخ الناس وسار في آثارهم يقتل ويأسر وهم يغرقون فلم يسلم من السفن كلها أكثر من خمسين قطعة. وسار الوزير أبو علي منهزمًا فأخذ أسيرًا وأحضر عند بختيار فأكرمه وعظمه وجلس بين يديه وقال له: ما الذي تشتهي أن أفعل معك قال: ترسلني إلى الملك أبي كاليجار. فأرسله إليه فأطلقه فاتفق أن غلامًا له وجارية اجتمعا على فساد فعلم بهما وعرفا أنه قد علم حالهما فقتلاه بعد أسره بنحو من شهر. وكان قد أحدث في ولايته رسومًا جائرة وسن سننًا سيئة ومنها جباية سوق الدقيق ومقالي الباذنجان وسميريات المشارع ودلالة ما يباع من الأمتعة وأجر الحمالين الذين يرفعون التمور إلى
لما انحدر الوزير أبو علي بن ماكولا إلى البصرة على ما ذكرناه لم يستصحب معه الأجناد البصريين الذين مع جلال الدولة تأنيسًا للديلم الذين بالبصرة فلما أصيب على ما ذكرنا تجهز هؤلاء البصريون وانحدروا إلى البصرة فوصلوا إليها وقاتلوا من بها من عسكر أبي كاليجار فانهزم عسكر أبي كاليجار ودخل عسكر جلال الدولة البصرة في شعبان. واجتمع عسكر أبي كاليجار بالأبلة مع بختيار فأقاموا بها يستعدون للعود وكتبوا إلى كاليجار يستمدونه فسير إليهم عسكرًا كثيرًا مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس فقدموا إلى الأبلة واجتمعوا مع بختيار ووقع الشروع في قتال من بالبصرة من أصحاب جلال الدولة فسير بختيار جمعًا كثيرًا في عدة من سفن فقاتلوهم فنصر أصحاب جلال الدولة عليهم وهزموهم فوبخهم بختيار وسار من وقته في العدد الكثير والسفن الكثيرة فاقتتلوا واشتد القتال فانهزم بختيار وقتل من أصحابه جماعة كثيرة وأخذ هو فقتل من غير قصد لقتله وأخذوا كثيرًا من سفنه وعاد كل فريق إلى موضعه. وعزم الأتراك من أصحاب جلال الدولة على مباكرة الحرب وإتمام الهزيمة وطالبوا العامل الذي على البصرة بالمال فاختلفوا وتنازعوا في الإقطاعات فأصعد ابن المعبراني صاحب البطيحة فسار إليه جماعة من الأتراك الواسطيين ليردوه فلم يرجع فتبعوه وخاف من بقي بعضهم من بعض أن لا يناصحوهم ويسلموهم عند الحرب فتفرقوا واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات وقد كان خائفًا منهم فجاءه ما لم يقده من الظفر ونادى من بقي بالبصرة بشعار أبي كاليجار فدخلها عسكره وأرادوا نهبها فمنعهم ذو السعادات.
وما كان منه كان فضلون الكردي هذا بيده قطعة من أذربيجان قد استولى عليها وملكها فاتفق أنه غزا الخزر هذه السنة فقتل منهم وسبى وغنم شيئًا كثيرًا فلما عاد إلى بلده أبطأ في سيره وأمل الاستظهار في أمره ظنًا منه أنه قد دوخهم وشغلهم بما عمله بهم فاتبعوه مجدين وكيسوه وقتلوا من أصحابه والمطوعة الذين معه أكثر من عشرة آلاف قتيل واستردوا الغنائم التي أخذت منهم وغنموا أموال العساكر الإسلامية وعادوا.
في هذه السنة مرضض القادر بالله وأرجف بموته فجلس جلوسًا عامًا وأذن للخاصة والعامة فوصلوا إليه فلما اجتمعوا قام الصاحب أبو الغنائم فقال: خدم مولانا أمير المؤمنين داعون له بإطالة البقاء وشاكرون لما بلغهم من نظره لهم وللمسلمين باختيار الأمير أبي جعفر لولاية العهد. فقال الخليفة للناس: قد أذنا في العهد له وكان أراد أن يبايع له قبل ذلك فثناه عنه أبو الحسن بن حاجب النعمان. فلما عهد إليه ألقيت الستارة وقعد أبو جعفر على السرير الذي كان قائمًا عليه وخدمه الحاضرون وهنأوه وتقدم أبو الحسن بن حاجب النعمان فقبل يده وهنأه فقال: فقبل عذره ودعي له على المنابر يوم الجمعة لتسع بقين من جمادى الأولى.
في هذه السنة استوزر جلال الدولة أبا سعد عبد الرحيم بعد ابن ماكولا ولقبه عميد الدولة. وفيها توفي أبو الحسن بن حاجب النعمان ومولده سنة أربعين وثلاثمائة وكان خصيصًا بالقادر وفيها ظهر متلصصة ببغداد من الأكراد فكانوا يسرقون دواب الأتراك فنقل الأتراك خيلهم إلى دورهم ونقل جلال الدولة دوابه إلى بيت في دار المملكة. وفيها توفي أبو الحسن بن عبد الوارث الفسوي النحوي بفسا وهو نسيب أبي علي الفارسي. وفيها توفي أبو محمد الحسن بن يحيى العلوي النهرسابسي الملقب بالكافي وكان موته بالكوفة. وفيها في رجب جاء في غزنة سيل عظيم أهلك الزرع والضرع وغرق كثيرًا من الناس لا يحصون وخرب الجسر الذي بناه عمرو بن الليث وكان هذا الحادث عظيمًا. وفيها في رمضان تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين في غزنة بألف ألف درهم وأدر على الفقراء من العلماء والرعايا إدرارات كثيرة.
في هذه السنة سير السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكرًا إلى التيز فملكها وما جاورها. وسبب ذلك أن صاحبها معدان توفي وخلف ولدين أبا العساكر وعيسى فاستبد عيسى بالولاية والمال فسار أبو العساكر إلى خراسان وطلب من مسعود النجدة فسير معه عسكرًا وأمرهم بأخذ البلاد من عيسى أو الاتفاق مع أخيه على طاعته فوصلوا إليها ودعوا عيسى إلى الطاعة والموافقة فأبى وجمع جمعًا كثيرًا بلغوا ثمانية عشر ألفًا وتقدم إليهم فالتقوا فاستأمن كثير من أصحاب عيسى إلى أخيه أبي العساكر فانهزم عيسى ثم عاد وحمل في نفر من أصحابه فتوسط المعركة فقتل واستولى أبو العساكر على البلاد ونهبها ثلاثة أيام فأجحف بأهلها.
في هذه السنة ملك الروم مدينة الرها وكان سبب ذلك أن الرها كانت بيد نصر الدولة بن مروان كما ذكرناه فلما قتل عطير الذي كان صاحبها شفع صالح بن مرداس صاحب حلب إلى نصر الدولة ليعيد الرها إلى ابن عطير وإلى ابن شبل بينهما نصفين فقبل شفاعته وسلمها إليهما. وكان له في الرها برجان حصينان أحدهما أكبر من الآخر فتسلم ابن عطير الكبير وابن شبل الصغير وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم وباعه حصته من الرها بعشرين ألف دينار وعدة قرايا من جملتها قرية تعرف إلى الآن بسن ابن عطير وتسلموا البرج الذي له ودخلوا البلد فملكوه وهرب منه أصحاب ابن شبل وقتل الروم المسلمين وخربوا المساجد. وسمع نصر الدولة الخبر فسير جيشًا إلى الرها فحصروها وفتحوها عنوة واعتصم من بها من الروم بالبرجين واحتمى النصارى بالبيعة التي لهم وهي من أكبر البيع وأحسنها عمارة فحصرهم المسلمون بها وأخرجوهم وقتلوا أكثرهم ونهبوا البلد وبقي الروم في البرجين وسير إليهم عسكرًا نحو عشرة آلاف مقاتل فانهزم أصحاب ابن مروان من بين أيديهم ودخلوا البلد وما جاورهم من بلاد المسلمين وصالحهم ابن وثاب النميري على حران وسروج وحمل إليهم خراجًا.
وفيها سارت عساكر خراسان إلى كرمان فملكوها وكانت للملك أبي كاليجار فاحتمى عسكره بمدينة بردسير وحصرهم الخراسانيون فيها وجرى بينهم عدة وقائع وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار يطلبون المدد فسير إليهم العادل بهرام بن مافنة في عسكر كثيف ثم إن الذين ببردسير خرجوا إلى الخراسانية فواقعوهم واشتد القتال وصبوا لهم فأجلت الوقعة عن هزيمة الخراسانية وتبعهم الديلم حتى أبعدوا ثم عادوا إلى بردسير. ووصل العادل عقيب ذلك إلى جيرفت وسير عسكره إلى الخراسانية وهم بأطراف البلاد فواقعوهم فانهزم الخراسانية ودخلوا المفازة عائدين إلى خراسان وأقام العادل بكرمان إلى أن أصلح أمورها وعاد إلى فارس.
في هذه السنة في ذي الحجة توفي الإمام القادر بالله أمير المؤمنين وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر وخلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر وعشرون يومًا وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك فلما وليها القادر بالله أعاد جدتها وجدد ناموسها وألقى الله هيبته في قلوب الخلق فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها. وكان حليمًا كريمًا خيرًا يحب الخير وأهله ويأمر به وينهى عن الشر ويبغض أهله وكان ولما توفي صلى عليه ابنه القائم بأمر الله وكان القادر بالله أبيض حسن الجسم كث اللحية طويلها يخضب وكان يخرج من داره في زي العامة ويزور قبور الصالحين كقبر معروف وغيره وإذا وصل إليه حال أمر فيه بالحق. قال القاضي الحسين بن هارون: كان بالكرخ ملك ليتيم وكان له فيه قيمة جيدة فأرسل إلي ابن حاجب النعمان وهو حاجب القادر يأمرني أن أفك عنه الحجر ليشتري بعض أصحابه ذلك الملك فلم أفعل فأرسل يستدعيني فقلت لغلامه: تقدمني حتى ألحقك وخفته فقصدت قبر معروف فدعوت الله أن يكفيني شره وهناك شيخ فقال لي: على من تدعو فذكرت له ذلك ووصلت إلى ابن حاجب النعمان فأغلظ لي في القول ولم يقبل عذري فأتاه خادم برقعة ففتحها وقرأها وتغير لونه ونزل من الشدة فاعتذر إلي ثم قال: كتبت إلى الخليفة قصة فقلت: لا. وعلمت أن ذلك الشيخ كان الخليفة. وقيل: كان يقسم إفطاره كل ليلة ثلاثة أقسام: فقسم كان يتركه بين يديه وقسم يرسله إلى جامع الرصافة وقسم يرسله إلى جامع المدينة يفرق على المقيمين فيهما فاتفق أن الفراش حمل ليلة الطعام إلى جامع المدينة ففرقه على الجماعة فأخذوا إلا شابًا فإنه رده. فلما صلوا المغرب خرج الشاب وتبعه الفراش فوقف على باب فاستطعم فأطعموه كسيرات فأخذها وعاد إلى الجامع فقال له الفراش: ويحك ألا تستحي ينفذ إليك خليفة الله بطعام حلال فترده وتخرج وتأخذ من الأبواب! فقال: والله ما رددته إلا لأنك عرضته علي قبل المغرب وكنت غير محتاج إليه فلما احتجت طلبت فعاد الفراش فأخبر الخليفة بذلك فبكى وقال له: راع مثل هذا واغتنم أخذه وأقم إلى وقت الإفطار. وقال أبو الحسن الأبهري: أرسلني بهاء الدولة إلى القادر بالله في رسالة فسمعته ينشد: سبق القضاء بكل ما هو كائن والله يا هذا لرزقك ضامن تعنى بما يفنى وتترك ما به تغنى كأنك للحوادث آمن أوما ترى الدنيا ومصرع أهلها فاعمل ليوم فراقها يا حائن واعلم بأنك لا أبا لك في الذي أصبحت تجمعه لغيرك خازن يا عامر الدنيا أتعمر منزلًا لم يبق فيه مع المنية ساكن الموت شيء أنت تعلم أنه حق وأنت بذكره متهاون إن المنية لا تؤامر من أتت في نفسه يومًا ولا تستأذن فقلت: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين لإنشاد مثل هذه الأبيات. فقال: بل لله المنة إذ ألزمنا بذكره ووفقنا لشكره ألم تسمع قول الحسن البصري في أهل المعاصي: هانوا عليه فعصوه ولو
لما مات القادر بالله جلس ابنه القائم بأمر الله وأبو جعفر عبد الله وجددت له البيعة وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد سنة إحدى عشرين كما ذكرناه واستقرت الخلافة له وأول من بايعه الشريف أبو القاسم المرتضى وأنشده: فإما مضى جبل وانقضى فمنك لنا جبل قد رسا وإما فجعنا ببدر التمام فقد بقيت منه شمس الضحى لنا حزن في محل السرور وكم ضحك في خلال البكا فيا صارم أغمدته يد لنا بعدك الصارم المنتضى وهي أكثر من هذا. وأرسل القائم بأمر الله قاضي القضاة أبا الحسن الماوردي إلى الملك أبي كاليجار ليأخذ عليه البيعة ويخطب له في بلاده فأجاب وبايع وخطب له في بلاده وأرسل إليه هدايا جليلة وأموالًا كثيرة.
في هذه السنة في ربيع الأول تجددت الفتنة ببغداد بين السنة والشيعة. وكان سبب ذلك أن الملقب بالمذكور أظهر العزم على الغزاة واستأذن الخليفة في ذلك فأذن له وكتب له منشور من دار الخلافة وأعطى علمًا فاجتمع له لفيف كثير فسار واجتاز بباب الشعير وطاق الحراني وبين يديه الرجال بالسلاح فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقالوا: هذا يوم معاوية فنافرهم أهل الكرخ ورموهم وثارت الفتنة ونهبت دور اليهود لأنهم قيل عنهم إنهم أعانوا أهل الكرخ. فلما كان الغد اجتمع السنة من الجانبين ومعهم كثير من الأتراك وقصدوا الكرخ فأحرقوا وهدموا الأسواق وأشرف أهل الكرخ على خطة عظيمة. وأنكر الخليفة ذلك إنكارًا شديدًا ونسب إليهم تخريق علامته التي مع الغزاة فركب الوزير فوقعت في صدره آجرة فسقطت عمامته وقتل من أهل الكرخ جماعة وأحرق وخرب في هذه الفتنة سوق العروس وسوق الصفارين وسوق الأنماط وسوق الدقاقين وغيرها واشتد الأمر فقتل العامة الكلالكي وكان ينظر في المعونة وأحرقوه. ووقع القتال في أصقاع البلد من جانبيه وقتل أهل الكرخ ونهر طابق والقلائين وباب البصرة وفي الجانب الشرقي أهل سوق الثلاثاء وسوق يحيى وباب الطاق والأساكفة والرهادرة ودرب سليمان فقطع الجسر ليفرق بين الفريقين ودخل العيارون البلد وكثر الاستقفاء بها والعملات ليلًا ونهارًا. وأظهر الجند كراهة الملك جلال الدولة وأرادوا قطع خطبته ففرق فيهم مالًا وحلف لهم فسكنوا ثم عاودوا الشكوى إلى الخليفة منه وطلبوا أن يأمر بقطع خطبته فلم يجبهم إلى ذلك فامتنع حينئذ جلال الدولة من الجلوس وضربه النوبة أوقات الصلوات وانصرف الطبالون لانقطاع الجاري لهم ودامت هذه الحال إلى عيد الفطر فلم يضرب بوق ولا طبل ولا أظهرت الزينة وزاد الاختلاط. ثم حدث في شوال فتنة بين أصحاب الأكيسة وأصحاب الخلعان وهما شيعة وزاد الشر ودام إلى ذي الحجة فنودي في الكرخ بإخراج العيارين فخرجوا واعترض أهل باب البصرة قومًا من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين عليهما السلام فقتلوا منهم ثلاثة نفر وامتنعت زيارة مشهد موسى ابن جعفر.
في هذه السنة ملك الروم قلعة أفامية بالشام. وسبب ملكها أن الظاهر خليفة مصر سير إلى الشام الدزبري وزيره فملكه وقصد حسان بن المفرج الطائي فألح في طلبه فهرب منه ودخل بلد الروم ولبس خلعة ملكهم وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب ومعه عسكر كثير فسار إلى أفامية فكبسها وغنم ما
اجتمع أصاغر الغلمان هذه السنة إلى جلال الدولة وقالوا له: قد هلكنا فقرًا وجوعًا وقد استبد القواد بالدولة والأموال عليك وعلينا وهذا بارسطغان ويلدرك قد أفقرانا وأفقراك أيضًا. فلما بلغهما ذلك امتنعا من الركوب إلى جلال الدولة واستوحشا وأرسل إليهما الغلمان يطالبونهما بمعلومهم فاعتذرا بضيق أيديهما عن ذلك وسارا إلى المدائن. فندم الأتراك على ذلك وأرسل إليهما جلال الدولة إلى أن نهبوا من داره فرشًا وآلات ودواب وغير ذلك فركب وقت الهاجرة إلى دار الخلافة ومعه نفر قليل من الركابية والغلمان وجمع كثير من العامة وهو سكران فانزعج الخليفة من حضوره فلما علم الحال أرسل إليه يأمره بالعود إلى داره ويطيب قلبه فقبل قربوس سرجه ومسح حائط الدار بيده وأمرها على وجهه وعاد إلى داره والعامة معه.
في هذه السنة قبل قاضي القضاة أبو عبيد الله بن ماكولا شهادة أبي الفضل محمد بن عبد العزيز بن الهادي والقاضي أبي الطيب الطبري وأبي الحسين ابن المهتدي وشهد عنده أبو القاسم بن بشران وكان قد ترك الشهادة قبل ذلك. وفيها فوض مسعود بن محمود بن سبكتكين إمارة الري وهمذان والجبال إلى تاش فراش وكتب له إلى عامل نيسابور بإنفاق الأموال على حشمه ففعل ذلك وسار إلى عمله وأساء السيرة فيه. وفيها في رجب أخرج الملك جلال الدولة دوابه من الإصطبل وهي خمس عشرة دابة وسيبها في المديان بغير سائس ولا حافظ ولا علف فعل ذلك لسببين: أحدهما عدم العلف والثاني أن الأتراك كانوا يلتمسون دوابه ويطلبونها كثيرًا فضجر منهم فأخرجها وقال: هذه دوابي منها: خمس لمركوبي والباقي لأصحابي ثم صرف حواشيه وفراشيه وأتباعه وأغلق باب داره لانقطاع الجاري له فثارت لذلك فتنة بين العامة والجند وعظم الأمر وظهر العيارون. وفيها عزل عميد الدولة وزير جلال الدولة ووزر بعده أبو الفتح محمد ابن الفضل بن أردشير فبقي أيامًا ولم يستقم أمره فعزل ووزر بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين وهو ابن أخي أبي الحسين السهلي وزير مأمون صاحب خوارزم فبقي في الوزارة خمسة وخمسين يومًا وفيها توفي عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو نصر الفقيه المالكي بمصر وكان ببغداد ففارقها إلى مصر عن ضائقة فأغناه المغاربة.
في هذه السنة في ربيع الأول تجددت الفتنة بين جلال الدولة وبين الأتراك فأغلق بابه فجاءت الأتراك ونهبوا داره وسلبوا الكتاب وأرباب الديوان ثيابهم وطلبوا الوزير أبا إسحاق السهلي فهرب إلى حلة كمال الدولة غريب بن محمد وخرج جلال الدولة إلى عكبرا في شهر ربيع الآخر وخطب الأتراك ببغداد للملك أبي كاليجار وأرسلوا إليه يطلبونه وهو بالأهواز فمنعه العادل بن مافنة عن الإصعاد إلى أن يحضر بعض قوادهم. فلما رأوا امتناعه من الوصول إليهم أعادوا خطبة جلال الدولة وساروا إليه وسألوه العود إلى بغداد واعتذروا فعاد إليها بعد ثلاثة وأربعين يومًا ووزر له أبو القاسم بن ماكولا ثم عزل ووزر بعده عميد الدولة أبو سعد ابن عبد الرحيم فبقي وزيرًا أيامًا ثم استتر. وسبب ذلك أن جلال الدولة تقدم إليه بالقبض على أبي المعمر إبراهيم بن الحسين البسامي طمعًا في ماله فقبض عليه وجعله في داره فثار الأتراك وأرادوا منعه وقصدوا دار الوزير وأخذوه وضربوه وأخرجوه من داره حافيًا ومزقوا ثيابه وأخذوا عمامته وقطعوها وأخذوا خواتيمه من يده فدميت أصابعه وكان جلال الدولة في الحمام فخرج مرتاعًا فركب وظهر لينظر ما الخبر فأكب الوزير يقبل الأرض ويذكر ما فعل به فقال جلال الدولة: أنا ابن بهاء الدولة وقد فعل بي أكثر من هذا ثم أخذ من البسامي ألف دينار وأطلقه واختفى الوزير.
قد ذكرنا انهزام علاء الدولة أبي جعفر من الري ومسيره عنها فلما وصل إلى قلعة فردجان أقام بها لتندمل جراحه ومعه فرهاذ بن مرداويج وكان قد جاءه مددًا له وتوجهوا منها إلى بروجرد فسير تاش فراش مقدم عسكر خراسان إلى علاء الدولة واستعمل عليهم علي بن عمران فسار يقص أثر علاء الدولة فلما قارب بروجرد صعد فرهاذ إلى قلعة سليموه ومضى أبو جعفر إلى سابور خواست ونزل عند الأكراد الجوزقان. وملك عسكر خراسان بروجرد وراسل فرهاذ الأكراد الذي مع علي ابن عمران واستمالهم فصاروا معه وأرادوا أن يفتكوا بعلي وبلغه الخبر فركب ليلًا في خاصته وسار نحو همذان ونزل في الطريق بقرية تعرف بكسب وهي منيعة فاستراح فيها فلحقه فرهاذ وعسكره والأكراد الذين صاروا معه وحصروه في القرية فاستسلم وأيقن بالهلاك فأرسل الله تعالى ذلك اليوم مطرًا وثلجًا فلم يمكنهم المقام عليه لأنهم كانوا جريدة بغير خيام ولا آلة شتاء فرحلوا عنه وراسل علي بن عمران الأمير تاش فراش يستنجده ويطلب العسكر إلى همذان ثم اجتمع فرهاذ وعلاء الدولة ببروجرد واتفقا على قصد همذان وسير علاء الدولة إلى أصبهان وبها ابن أخيه يطلبه وأمره بإحضار السلاح والمال ففعل وسار. فبلغ خبره علي بن عمران فسار إليه من همذان جريدة فكبسه بجرباذقان وأسره واسر كثيرًا من عسكره وقتل منهم وغنم ما معه من سلاح ومال غير ذلك. ولما سار علي عن همذان دخلها علاء الدولة وملكها ظنًا منه أن عليًا سار منهزمًا وسار علاء الدولة من همذان إلى كرج فأتاه خبر ابن أخيه ففت في عضده. وكان علي بن عمران قد سار بعد الوقعة إلى أصبهان طامعًا في الاستيلاء عليها وعلى مال علاء الدولة وأهله فتعذر عليه ذلك ومنعه أهلها والعسكر الذي فيها فعاد عنها فلقيه علاء الدولة وفرهاذ فاقتتلوا فانهزم منهما واخذا ما معه من الأسرى إلا أبا منصور ابن أخي علاء الدولة فإنه كان قد سيره إلى تاش فراش وسار علي من المعركة منهزمًا نحو تاش فراش فلقيه بكرج فعاتبه على تأخره عنه واتفقا على المسير إلى علاء الدولة وفرهاذ وكان قد نزل بجبل عند بروجرد متحصنًا فيه فافترق تاش وعلي وقصداه من جهتين: إحداهما من خلفه والأخرى من الطريق المستقيم فلم يشعر إلا وقد خالطه العسكر فانهزم علاء الدولة وفرهاذ وقتل كثير من رجالهما فمضى علاء الدولة إلى أصبهان وصعد فرهاذ إلى قلعة سليموه فتحصن بها.
|